1 – في سفح جبل
منذ آلاف مضت من السنين، ولد بطل هذه القصة – أعني: بطل أتينا – غي إحدا
المدائن اليونانية القديمة، الواقعة على سفح جبل شاهق من جبال اليونان.
وقضى بطل أتينا طفولته قريبا من ذالك الجبل الشاهق وعاش في تلك المدينة
عيشة راضية، حيث ترعاه أمه الحنون وتعتني بنشأتة وثقلفته، وتقص عليه أحسن
القصص، وتروي له كل معجب من أخبار الأولين، وتواريخ القدماء والمحدثي؛
لتبصره بحقائق الحياة وعظاتها، وتنفعه بما تحويه تلك الأحاديث من عبر
سامية، ومتع شاهقة.
2 – ملك أتينا
وكان أعجب ما تحدثه به أمه – من تلك الأحاديث البارعة – حديها عن أبيه؛ فقد
قصت على ولدها: بطل أتينا– ذات يوم – أقاصيص معجبة، وصفت فيها ما أتاه
والده من جلائل الاعمال، وعظائم الأمور، وقالت له فيما قالته:
لقد عهد إلى أبوك أن أكون ساهرة على العناية بأمرك؛ ليفرغ هو العناية
بالملك، والسهر على راحة الناس، وإقامت العدل بينهم، وهو يعيش في قصره
الفاخر في مدينة أتينا.
3 – حوار الأم وولدها
فقال لها بطل أتينا مدهوشا:
وما بال أبي لا يأتي إلى بلدنا هذا ليعيش معنا وادعا، قرير العين برؤية
ولده العزيز؟
فأجابته أمه باسمة:
كيف السبيل إلى تحقيق هذه الأمنية، يا ولدي العزيز؟ إن أباك مشغول بسياسة
الملك، وإقانة العدل بين رعيته.
وليس في قدرته أن يترك هذه الفروض والواجبات المقدسة، ليبحث عن ولد الصغير.
فقال لها ولدها:
صدقت - يا أمي- فيما قلت. ولكن خبريني – أيتها العزيزة البارة – ماذا
يعوقني عن السفر إلى مدينة أتينا ، حيث ألقى أبي، وأنعم به، وأمتع ناظري
برئيته؟
فقالت له أمه:
لك ما تحب وتريد – يا ولدي – ولكن الوقت لم يحن بعد؛ فأنت لا تزال في سن
الطفولة. فاصبر – يا عزيزي – حتى إذا كبرت سنك، واكتملت قوتك، أذنت لك
بالسفر إلى أبيك؛ فإن الطريق وعرة مخيفة، ولست آمن عليك أخطارها وأحداثها
(مصائبها المفاجئة).
4 – صخرة الجبل
فقال بطل أتينا متعجبا:
ومتى تأمنين - يا أماه – بأني على حال من السن والقوة، تبيح لي أن أسافر
وحدي، وأجتاز تلك الطريق المخوفة، دون أن تخشي على أحداثها وأخطارها؟
فقالت له أمه متوددة:
أنك - يا ولدي - لم تعد سن الطفولة. ولن أسمح لك بالسفر إلى أبيك، إذا بلغت
من القوة مبلغا يمكنك من رفع هذه الصخرة، التي نحلس عليها الآن في سفح هذا
الجبل!
فأسرع الصبي إلى تلك الصخرة، وبذل قصار جهده ليرفعها؛ فلم يقدر على تحريكها
– من مكانها – قيد أنملة ( مسافة رأس إصبع)، وخيل إليه – لضخامتها وثقلها –
أنها لاصقة بسفح الجبل.
فقالت أمه باسمة:
أرأيت – يا ولدي - كيف عجزت عن تحريك الصخرة من مكانها؟ فاصبر حتى تكبر
سنك، ويقوى ساعدك، فترفع. الصخرة من مكانها بأدنى محاولة وأيسر جهد، وترى
ما خبأناه لك تحتها من عتاد السفر. ومتى تم ذلك، أذنت لك بالذهاب إلى أبيك،
وتملي رؤيته.
5 – بعد أعوام
ومضى عل ذلك الحديث أعوام قليلة. وكان بطل أتينا وأمه يختلفان على ذلك
المكان، ويجلسان على تلك الصخرة – كل يوم – حيث يتجاذبان أطراف الحديث،
ويتمنيان أطيب الأماني.
وذا صباح، جلسا – على عادتهما – على تلك الصخرة العالية، فذكر بطل أتينا
حديث أمو الذي حدثته منذ أعوام. واشتد حنينه إلى لقاء أبيه؛ فبرقة عيناه من
شدة الحماسة، إذ لاح له أن تحقيق أمنيته وشيك (سريع)، وإن إدراك مطلبه
العزيز أصبح يسيرا عليه. فالتفت بطل أتينا إلى أمه قائلا:
أمي العزيزة: لقد أصبحت الآن – فيما أعتقد – رجلا شديد البأس. وأغلب ظني
أني قد بلغت من العزم ما يمكنني من رفع هذه الصخرة العظيمة. فماذا أنت
قائلة؟
فأجابته أمه:
ما أظن الوقت – يا ولدي – قد حان لبلوغ خذا المرام!
فقال لها واثقا مزهوا (معجبا بنفسه) :
إني جد واثق من قوتي. وسترين مصداق ما أقول.
6 – عتاد السفر
وكانت هذه الصخرة الهائلة منغرسة في الأرض، وقد أنبتت عليها طول العهد
كثيرا من الحشائش والطحائب. فجعل بطل أتينا يبذل كل ما في من قوة وجهد، حتى
زحزح الصخرة من مكانها؛ ثم رفعها قليلا، وقلبها على جانبها الآخر. وما
انتهى من ذلك حتى جهده التعب، وبلغ منه الإعياء كل مبلغ. فنظر إلى امه نظرة
الظافر المبتهج؛ فرآها تبتسم له، وقد ذرفت عيناها من دموع الفرح – لإنتصار
ولدها ونجاحه – ما ملأ قلبه ثقة ويقينا.
ثم قالت له:
سلمت يمينك - يا عزيزي – وأتم الله لك النصر، أيها الفارس الغلاب. فلا
تتوان عن السفر بعد الآن، ولا تلبث في المدينة لحظة واحدة، واذهب بسرعة إلى
أبيك الملك المظفر، فقد أوصاني ألا أسمح لك السفر فبل أن تزحزح هذه الصخرة
العظيمة من مكانها بذراعيك القويتين. وقد ترك لك تحتها عتاد السفر.
ونظر بطل أتينا فرأى فجوة تحت الصخرة، ورأى فيها سيفا مقبضه ذهبي، وإلى
جانبه نعلا أبيه اللتان تركهما له ليحتذيهما في أثناء سفره إليه.
7 – وصية الجد
فقالت أم البطل:
هذا سيف أبيك، وهاتان نعلاه، فاذهب إلى مملكتة، وأعد عهد شبابه، واقتحم
العقاب، وذلل الصعاب، وانهض بجلال الأعمال، وأعد سيرة أبيك الجرئ المقدام.
فصاح بطل أتينا:
إني راحل إلى أبي، وذاهب توا لتحقيق الأمنية الحبيب إلى نفسي تحقيقها.
وما علم جده بما اعتزمه، حتى أقبل عليه يودعه، ويدعو له بالتوفيق في مسعاه،
ويقول له:
أمامك – يا حفيدي العزيز – طريقان، إحداهما: طريق البحر، وهي طريق آمنة
ميسرة، والأخرى طريق البر، وهي شديدة الوعورة، محفوظة بالمخاوف
والأخطار،مليئة بالوحوش واللصوص والثعابين ولست آمن عليك أن تقطع هذه
الطريف المخوفة منفردا، وإن كنت أرى فيك – من شمائل الفروسية، ودلائل القوة
– ما يرجح عندي أن التوفيق حليفك، مهما تلق من أخطار ومتاعب. فاختر لنفسك
ما يحلو، ويبارك لك الله في حلك وترحالك، فأنت بالنجاح جدير.
8 – طريق أتينا
فشكر بطل أتينا لجده نصيحته الثمينة، ثم ودعه مستأذنا في السفر. وودع أمه
الحنون – بإحترام وأدب – وسار في طريقه راضي النفس، صادق العزم. ثابت
الجنان (مطمئن القلب).
وقد اختار لنفسه طريق البر؛ ليثبت – في تاريخ مجده – صحائف من البطولة لا
تنسى على مر الأجيال، وتعاقب الزمن.
وكان شديد الشوق إلى لقاء الوحوش، ومناجزة اللصوص (محاربتهم)، وتقحم
الأهوال، والتغلب على الأخطار.
وقد لقى – في طريقه – كثيرا نتها، وكتب الله له الفوز على أعدائه، والغلبة
(الانتصار) على ما لقيه من متلعب وعقبات.
ولن تسع هذه الصفحات وصف قليل من كثير ما لقيه بطل أتينا في طريفه من
الأحداث والمخاطر، التي بهرت رجال عصره، ورفعت اسمه، وأذاعت شهرته في جميع
الآفاق.
وحسبك أن تعلم أنه لم يصل إلى أتينا حتى أطلق عليه لقب: فارس العصر، وبطل
أتينا المقدام.
وكان – على الحقيقة – أصغر فرسان عصره سنا؛ فأصبح مثار إعجاب الناس، وموضع
تقديرهم، ومضرب الأمثال عندهم في الشجاعة والإقدام.
9 – مؤامرة الحساد
وكان للملك- أعني: والد هذا البطل الصغير – كثير من المنافسين من أبناء
أخيه، وكانوا يحسدونه ويترقبون موته – يوما بعد يوم – بفارغ الصبر، ليرثوا
ملكه العظيم نت بعده.
فلما سمعوا بمقدام هذا البطل الشجاع، دب إليهم اليأس، ودفعهم الحسد والغيظ
إلى الإئتمار به ليقتلوه.
وكان على رأس هذه المؤامرة الدنيئة، امرأة ذات كيد ودهاء، يطلق عليها لقب:
ساحرة أتينا. وهي رأس هذه الأسرة، ومدبرو كل دسيسة، ومحركة كل فتنة.
فأجمعوا أمرهم على لقاء بطل أتينا والتحيب به، ليخدعوه عما دبروه لقتلهمن
مؤامرة خسيسة وكيد دنيء.
خير لك أن تخفي إسمك عن أبيك، وأن تلقاه – أول الأمر – كأنك غريب عنه؛ حتى
بتبين - من حديثك وملامح وجهك – أنك ولده؛ فسيكون لهذه المفاجئة السارة
أطيب الأثر على نفسه.
فأقرهم (وافقهم) بطل أتينا على إقتراحهم الخبيث. وهو لا يعلم ما يضمرونه له
من كيد وحسد.
10 –ساحرة أتينا
وأسرع أولاد عمه – وعلى رأسهم ساحرة أتينا – فأوهموا المك أن بطل أتينا
قادم ليقتله وليسلبه تاجه الملكي. ثم أشاروا عليه بقتله، حتى يأمن شره.
فذعر الملك من إقدام ذلك الشاب (جرأته)، وحسبهم صادقين فيما زعموا؛ فوعده
بتنفيذ إقتراحهم.
الرأي غندي – يا مولاي – أن تسقيه من هذه الكأس المسمومة التي أعددتها لقتل
هذا الشرير؛ ليموت من فوره (للحال).
فأمن الحاضرون على كلامها، وأعلنوا إرتياحهم لرأيها، ولم ير الملك بدا من
قبول ذلك الإقتراح الخبيث.
وكانت ساحرة أتينا مثالا للشر، ومصدرا للإثم والخديعة، ولم يلق منها
الأهلون – منذ قدومه إلى أتينا – غير الإساءة والأذية. وكان لها مركبة
مسحورة، تجرها جمهرة من الثعابين المجنحة ( ذوات الأجنحة )، وتطير بها في
أجواز القضاء إلى حيث تشاء.
وبعد قليل، حضر بطل أتينا إلى قصر الملك مستأذنا من المثول بين يديه، فقالت
ساحرة أتينا للملك:
إءذن له في المثول بين يديك، وادعه إلى شرب القدح المسموم، لتخلص – ويخلص
الناس جميعا – من شره وأذاه.
11 – افتضاح السر
فلما كثل بطل أتينا بين يدى أبيه، رآه جالسا على عرشه الملكي، والتاج على
رأسه ويكاد سناه يخطف الأبصار، وصولجان الملك في يده، ورأى لحيته البيضاء
تزين وجهه، وتكسوه وقارا وجلالا؛ فتملكه الفرح والأسى (الحزن) معا، وبكى من
فرط السرور برأيته. وإنما حزن حينما رآه باديا على أسارير أبيه ( خطوط
جبينه ) من ضعف السيخوخة، وفرح لأنه سيكون لأبيه خير ناصرومعين على تدبير
شؤون الملك. وهمً بطل أتينا بالكلام، فانعقد لسانه من فرط الدهش، واختنق
صوته بالدموع.
فخشيت ساحرة أتينا أن يفتضح السر، وأسرعت إلى بطل أتينا تأمره ان يشرب
الكأس – تلبية لمشيئة الملك – بعد أن همست في اذن الملك ان مصدر ارتباك
الفتى وسر خباله، إنما نشآ من تفكيره في جريمته الشنعاء التي يهم
باقترافها.
ومد الفتى بده فأخذ الكأس. وما أدناه من فيه حتى ارتعدت فرائس الملك وقال
له : حذرا ان تشرب قطرة واحدة من هذه الكأس المسمومة، وألا هلكت لساعتك!.
وإنما فعل الملك ذلك، لأنه لمح مقبض سيفه الذهبي معلقاعلى منكب ولده تحت
ردائه؛ فصاح به مذعورا:
أنى لك هذا السيف؟
فقال له:
بقد خلف لي أبي هذا السيف وهاتين النعلين، فيما خيرتني امي.
ثم قص عليه بطل أتينا قصته كلها.
فصاح الملك فرحان مسرورا:
ما أسعدني بلقياك، يا ولداه!
ثم أقبل عليه يعانقه ويقبله، ويحمد الله على ما يسر ( هيأ ) له من أسباب
السعادة والهناء.
12- فرار الساحرة
واما رأت ساحرة أتينا افتضاح السر، وإخفاق المؤامرة، اسرعت إلى كنوز القصر،
تنتهب منها كل ما وصلت إليه يدها من حلي ونفائس، حتى ملأت مركبتها
المسحورة، وطارب بها الثعابين المجنحة في اجواز الفضاء. وظلت تقذف الجماهير
بتلك الأحجار الكريمة، وهي محنقة (شديدة الغضر) تكاد تتميز (تشنق) من
الغيظ، حتى غابت عن الانظار.
ولا تسل عن بهجة الاهلين، حين عرفوا آخرة تلك الظالمة، وتيقنوا انهم قد
ارتاحوا من دسائسها وآثانها.
وجمع الاهلين كل ما قذفتهم به من الاحجار الكريمة، وذهبوا إلى مليكهم؛ فلم
يقبل منهم شيئا مما حاولوا رده، وقال لهم:
لقد وهبت لكم هذه النفائس شكرا لله غلى ما يسره لي من السعادة بقرب ولدي
الحبيب.
وعاش الملك وولده وشعبه ردحا ( مدة طويلة ) من الزمن في يسر وهناء وصفاء،
دون ان يفنطوا إلى ما يخبوه لهم القدر من مصائب وأحداث.
يتبع....